الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «الدِّينُ النَّصِيحةُ لله ولرسوله ولأَئمَّة المُسْلمين وعامّتهم».قال أَبو سليمان الخطَّابى: النَّصيحةُ كلمةٌ جامعة معناها حِيازَةُ الحظِّ للمَنْصوحِ له، ويقالُ: هو من وَجِيزِ الأَسماءِ ومختصَر الكلام، فإِنَّه ليس في كلام العرب كلمةٌ مفردة تُسْتوفَى بها العِبارات عن معنى هذه الكلمة حتى يضمَّ إِليها شى آخر، كما قالوا في الفلاح إِنَّه ليس في كلام العرب كلمة أَجمعُ لخير الدنيا والآخرة منه، حتَّى صارلا يَعْدِلُهُ شيء من الكلام في معناه.قيل: الكلمة مأخوذةٌ من نَصَح: خاطَ، وقيل: من نَصَح العَسَل: صَفَّاه، شَبَّهوا تخليصَ القولِ والعَمل من شَوْب الغِشِّ والخِيانة بتخليص العَسَل من الخَلْط انتهى ملخَّص كلامه وأَقولُ: النُّصْحُ: الخُلوصُ مطلقا ولا تَقْيِيد له بالعسَل ولا بغيره كما قدّمته آنفًا.وإِعادة معنى الكلمة على معنى الخُلوص أَوْضَح.وأَمّا بيانُ أَنواع النَّصيحة فقد قال الشيخ أَبو زكريا: قالوا: مَدارُ الدّين على أَربعةِ أَحاديث، وأَنا أَقول بل مدارُه على هذا الحديث وَحْدَه.ثمَّ اعلم أَنَّ النَّصيحة أَقسامٌ كما بيّنه صلَّى الله علهي وسلَّم؛ فأَمّا النصيحة لِله عزَّ وجلّ فمعناها منصرفٌ إلى اعتقاد وَحْدانيّته، ووَصْفِه بما هو أَهلُه، وتَنْزِيهِه عَمّا لا يجوز عليه، والرّغبةِ في مَحابّهِ والبعد عن مَساخِطه، والإِخلاص في عبادته، والحبّ فيه والبغض، ومُوالاة مَنْ أَطاعَه، ومُعاداة من عَصاه، وجهاد من كَفَر به، والاعتراف بنعمه والشكر عليها بالقول والفِعْل، والدّعاءِ إِلى جميع هذه الأَوصاف المذكورة، والحثَّ عليها، والتلطُّف في جَمْع جميع الناس أَوْ مَنْ أَمكن منهم عليها.وحقيقة هذه الإِضافة راجعةٌ إِلى العَبْد في نُصْحِه نفسه لله، ودَعْوة غيره من الخلق إِلى هذه الخصال.والله سبحانه غنىٌّ عن نُصْح كلّ ناصح.وأَمّا نصيحةُ كِتابِه فالإِيمان بأَنَّه كلامُ الله تعالى وتَنْزيلُه، لا يُشْبهُه شيء من كلامِ الخَلْق، ولا يَقْدِرُ على مِثْله أَحدٌ من المخلوقين.ثم من نُصْحِه تِلاوتُه، وحَقُّ تِلاوَتِه إِقامةُ حُروفه وتحسينُها، والخُشوع عند الاستماع لها وعند قراءَتها، والذَبُّ عنه من تأَويل الغالِين وتحريفِ المُبْطِلين وطَعْن المُلْحِدين، والتصديقُ بجميع ما فيه، والوُقوفُ عند أَحكامه، والتَفقُّه فيه، والاعتبار بمواعظه، والتفكُّر في عجائبه، والعلم بفرائضه وسُنَبِه، ونشر عُلومه، والدّعاءِ إِليه، وتعظيم أَهله.وأَمّا النَّصيحةُ لرسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم فإِنَّما هي في تصديقهِ على الرّسالة، والإِيمان بجميع ما جاءَ به، وبذلِ الطَّاعة له فيما أَمر به ونَهَى عنه، ومؤَازَرَتِه ونُصْرَتِهِ وحِمايته حَيًّا وميتا، وإِحياءِ سنَّته بالطَلَب لها والذبّ عنها، ونَشْرها وإِثارة علومها والتَّفَقُّه في معانيها، والدّعاءِ إِليها والتلطُّف في تعَلُّمها وتعليمها.وإِجلال أَهلها، والإِمساك عن الكلام فيها بغير فَهْم، والتأَدُّب عند قراءَتها.وأمّا النَّصيحة لأَئمة المسلمين.فإِنَّ الأَئمة هُمُ الوُلاة من الخُلَفاء الرّاشدِين ومَنْ بعدهم ممّن يلى أَمَر الأُمّة ويقوم به.ومن نصيحتهم مُعاوَنَتُهم على الحقّ وطاعتُهم فيه، وأَمرُهُم به، وتنبيهُهم وتذكيرهم برِفْق، وإِعلامُهم بما غَفَلُوا عنه، وتركُ الخروج عليهم، وتأَلُّف النَّاس لطاعتهم، والصّلاةُ خَلْفَهم، والجهادُ معهم، وأَداء الصّدقات إِليهم وأَلاَّ يغُرُّوهم بالثَّناءِ الكاذب عليهم، وأَن يُدْعَى لهم بالصّلاح.وهذا على أَنَّ المراد بأَئمة المسلمين الوُلاة عليهم، وهو الذي فهمه جُمهور العلماءِ من الحديث.ويحتمل أَن يكون المرادُ به الأَئمة الذين هم عُلماءُ الدين كما قال جماعةٌ من المفسّرين في قوله تعالى: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} إِنَّ المراد بأُولى الأَمر منكم العُلماء، فتكون نصيحتهم في قبول ما رَوَوْهُ، وتقليدِهم في الأَحكام لمن ليست له أَهليّة، وإِحسان الظنَّ بِهِمْ.ويُمكن حمل أَئمة المسلمين على المجموع من الأُمراءِ والعلماءِ، بناءً على القول بحمل المشترك على معنيَيْه. والله أَعلم.وأَما النَّصيحة لعامَّة المسلمين، وهم من عَدَا وُلاة الأَمْر الأُمراء والعُلماء على هذا الاحتمال، فإِرْشادُهم لمَصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكفُّ الأَذَى عنهم، وسَتْرُعَوْراتهم وسدُّ خَلاَّتهم، ودفعُ المضارّ عنهم، ورفع المسارّ إِليهم، وأَمْرُهم بالمعروف ونَهْيُهم عن المنكر برفق وإِخلاص، والشفقةُ عليهم، وتنبيهُ غافِلِهم وتبصيرُ جاهلهم، ورَفْدُ مُحتاجهم، وتوقيرُ كبيرهم، ورحمةُ صغيرهم، وتَحَوُّلهم بالمَوْعظة الحسنة، وتركُ غشِّهم وحَسَدِهم، وأَنْ يُحِبَّ لهم ما يحبّ لنفسه، ويكرَه لهم ما يكرهُ لها، فبهذا التفصيل ظهر أَنْ حَصْر الدّين في النَّصيحة على ظاهره، وإِنْ كان بعضُ ذلك فرض عين، وبعضُه فَرْضَ كفاية، وبعضه سُنَّةً، كما هو الدّين أَيضًا يشتمل على جميع ذلك.وفى هذا الحديث أَنَّ النصيحة تُسَمَّى دينا وإِسلامًا، وأَنَّ الدّين يقع على العمل كما يقع على القول.والنَّصيحة فرضٌ يُجْزى فيها مَنْ قام به ويسقُط عن الباقين.والنصيحة لازمةٌ على قَدْر الطَّاقة إِذا عَلِم النَّاصحُ أَنَّه يُقبَل نُصْحُه ويُطاعُ أَمرُه، وأَمِنَ على نفسه المكروهَ، فإِن خشى أَذَى فهو في سَعَة.وأمّا نصيحة المُلوك فهو على قَدْرِ الجاه والمنزلة عندهم، فإِذا أَمِنَ من ضَرّهِم فعليه نُصحهم، فإِن خشى على نفسه غَيَّر بقَلْبه، وإِنْ علم أَنَّه لا يَقْدِر على نُصحِهم فلا يدخلُ عليهم لأَنَّه يَفْتِنهم ويزيدهم فِتْنةً ويَذْهَبُ دينهُ معهم.قال الفُضَيْل: رُبّما يدخلُ العالِمُ على المَلِكِ ومعه شيء من دِينِه فيخرجُ وليس معه شىءٌ.قيل له: وكَيْفَ ذلك؟ قال: يصدّقه في كَذِبه، ويمدَحُه في وَجْهه.والنَّصيحة واجبة لجميع الخَلْق مسلمين وغيرهم، وهو معنى قولِه وعامَّتهم، فيقال للكافر اتَّقِ الله تعالَى ويُدْعَى إِلى الإِسلام، ويُنْهَى عن ظُلْمه، ومنه قوله تعالى: {وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}.قال الآجُرِّى: ولا يكون ناصحًا لله تعالى ولِرَسُوله، ولأَئمة المسلمين وعامَّتِهم إِلاَّ من بدأَ بالنَّصِيحة لنَفْسه، واجتهد في طلب العِلْم والفِقْه لِيَعْرِف به ما يجب عليه، ويعلم عداوَةَ الشيطان له وكيف الحذر منه، ويعلم قبيح ما تميل إِليه النفس حتى يخالِفَها بعِلْم.وقال الحَسنُ: مازال لِلهِ تعالى نُصحاء ينصحون للهِ في عِباده، وينصحون لِعبادِ الله في حقَّ الله، ويعلمون لله تعالى في الأَرض بالنَّصيحة، أُولئك خلفاءُ اللهِ في الأَرْض.وحاصل الأَمر أَنَّ السّلامة من جِهَة النُّطِق بالنصّيحة في أَحد أَمْرَيْن:الأَوّل: أَنْ تتكلم إِذا اشتهيت أَن تَسْكُت، وتَسْكُتَ إِذا اشتهيتَ أَن تتكلَّم.والأَمر الثانى: أَلاَّ تتكلَّم إِلاَّ فيما إِنْ سكتَّ عنه كنتَ عاصِيًا، وإِنْ لم فلا.وإِياك الكلام عندما يُستحسَنُ كلامُك، فإِنّ الكلام في ذلك الوقت من أَكبر الأَمراضِ، وماله دواءٌ إِلاَّ الصّمت. والله أَعلم. اهـ.
|